سنة جارية في الخير والشر جميعاً، وأين نحن عن قوله – عز وجل -: (( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)) مع قوله ((وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم))؟. ولسنا في شك من أن الله سينصر دينه ويُعلي كلمته، ولكن هل نحن – بواقعنا اليوم- أهلٌ لاستحقاق هذا النصر والتمكين. وهل تحديد يوم النصر ذلك بيوم بعينه هو مما تحتمله تلك الرؤى بصورها ومدلولاتها؟ ألا فلنربأ بأنفسنا وعقولنا عن هذا الإسفاف والاستخفاف. والقصدَ القصدَ في الاشتغال بالرؤى والانسياق لتأويل المعبرين، فإنه ليس يجدينا الآن الفزع في المنامات والأحلام، ومحاولة تنـزيلها على الواقع. إنما الذي يجدينا هي تلك الحلول الواقعية العملية التي تأخذ سنن الله الثابتة وتستهدي بنورها. والتوجه إلى الإيجابيات من الأعمال – التي تستفرغ التفكير والجهد – جديرٌ أن يطرد عنا هذا الوهم والانخداع.”
سلامة الرؤى
قلت: فإذا كان ذلك كذلك، فليس هناك ما يضمن لنا سلامة تمييز الرؤيا من قسميها الحلم، وحديث النفس، وسلامة تعبيرها، فأمرها قائم على الظن. فلذلك لا يُستدل بها في الشريعة الشريفة، ولا يُقال بها في الحلال والحرام، فالدين ما قال الله وما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -، لا بالأحلام والرؤى!. وهذا الأخير – وهو عدم الاحتجاج بالرؤى والأحلام في الشريعة الشريفة – انعقد عليه الإجماع. وقد نقل عليه الإجماع القاضي عياض اليحصبي, ونقله الإمام النووي في ” شرح صحيح مسلم” (1/115)وأقره, ونقل العلامة ابن مفلح – رحمه الله -(-763هـ) كلام القاضي عياض والنووي في كتابه: (الآداب الشرعية) (3/430) وأقره، وقال بعد نقله: (وهذا كله معنى كلام الشيخ تقي الدين ابن تيمية).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (الرؤيا المحضة التي لا دليل على صحتها لا يجوز أن يُثبت بها شيء بالاتفاق) ونقل الإجماع الحافظ ابن كثير(774 هـ) في “الفصول في سيرة الرسول” (298-299). ونقل العلامة أبو زُرْعة العراقي (826 هـ) الإجماع عن القاضي عياض وأقره في كتابه (طرح التثريب في شرح التقريب)(8/215). كما نقل الإجماع-على ذلك- العلامة علي القاري في كتابه ” المقدمة السالمة في خوف الخاتمة “(22). ونقل الإجماع من المتأخرين العلامة عبد الرحمن المُعلمي – رحمه الله – في كتابه القيم ” التنكيل” (2/242) والشيخ سعيد حوى – رحمه الله – في كتابه ” تربيتنا الروحية “(159-160).
وفي الختام هناك تنبيهان أُريد أن ألفت النظر إليهما، وهما:
التنبيــه الأول: رؤيا الأنبياء (بمعنى أن يرى النبي نفسُه شيئاً ) معصومةٌ. ومن الأدلة على ذلك من قوله تعالى إخباراً عن إبراهيم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102) سورة الصافات. وقد روى البخاري عن عُبيد بن عُمير قال: ” رُؤيا الأنبياءِ وحيٌ ” وقد رُوي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس – رضي الله عنهما – ولا يصح، وقد أجمع العلماء على ذلك – وهو عصمة ما يراه النبي. وممن نقل الإجماع على ذلك الإمام ابن عبد البر في (الاستذكار)(27/120، رقم 40462) قال: “… ولا خلاف بين العلماء أن رؤيا الأنبياء وحيٌ، بدليل قوله – عز وجل – حاكياً عن إبراهيم وابنه – صلوات الله عليهما -: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ(102) سورة الصافات. يعني ما أمرك الله به في منامك، وهذا واضح والحمد لله كثيراً”.
وقال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في ” مدارج السالكين “(1/42): “… ورُؤيا الأنبياء وحيٌ، فإنها معصومة من الشيطان. وهذا باتفاق الأمة، ولهذا أقدم الخليلُ على ذبح ابنه إسماعيلَ – عليهما السلام – بالرؤيا. وأما رؤيا غيرهم فتُعرض على الوحي الصريح، فإن وافقته وإلا لم يُعمل بها “. وذكر ابن القيم في نهاية كتابه (حادي الأرواح)(ص291): إجماع أهل السنة والحديث على مسائل نقلها عن “حربٍ” صاحب “الإمام أحمد”, فقال: (… وقد كانت الرؤيا من الأنبياء وحياً…).
موقف الإسلام من الرؤى والوحي للدكتور القرضاوي
وقال الدكتور القرضاوي في (موقف الإسلام)(29- 30): (لا نزاع بين أحدٍ من أهل الإسلام في أن إلهامَ الأنبياءِ جزءٌ من الوحي المعصوم. وفيه جاء مثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: (إن رُوح القدس نفث في رُوعي: أن نفساً لن تموتَ حتى تستكملَ أجلَها، وتستوعبَ رِزقَها).[16]. كما لا نزاع بينهم في أن رُؤيا الأنبياء وحي أيضاً. وهي تدخل مع الإلهام في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ(51) سورة الشورى. فقوله: (إلا وحياً)[17] يشملُ الإلهامَ في اليقظة والرؤيا في المنام، وقد ذكر لنا القرآنُ رؤيا إبراهيمَ في شأن ذبح ابنه. وكيف اعتبر ما رآه في المنام أمراً من الله – تعالى -، وكذلك الابن: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102) سورة الصافات. اهـ.
التنبيــه الثاني: تقدم الكلام عن ” سيجموند فرويد ” فأردت أن أُترجم له ترجمة مُختصرة لبيان خُطورة مذهبه ونظرياته ومدرسته (مدرسة التحليل النفسي)، فإليك هذه الترجمة:
سيجموند(سيغموند) فرويد (Sigmund Freud)
عالِمُ نفسٍ يهودي نمسوي، وُلِد” فرويد” في النمسا (1856هـ) من أسرة بورجوازية يهودية. فكانت له أخلاقه البورجوازية وتُراثه اليهودي الذي تصدر عنه ثقافته. وهو من أشهر علماء النفس في القرن العشرين. فله مكانة خاصة بين المشتغلين بعلم النفس والطب النفسي، وله شهرة واسعة بين المثقفين. وكان فرويد أول من حاول أن يجعل من نظريات علم النفس أيديولوجية تقول برأي في كل موضوع. تخصص فرويد في طب العقول، وأبدى اتجاهات مبكرة إلى تفسير الاضطرابات النفسية بالجنس.
و اعتنى بالأحلام وكان يستخدمها في التحليل النفسي لمرضاه. وألف كتاب “تفسير الأحلام” الذي تُرجم إلى معظم اللغات الحية. وعده الماديون والنفسانيون أول من تكلم – بزعمهم- كلاماً علمياً في الأحلام. والحلم عند فرويد ليس إلا تحقيق رغبة، فقد أُثِر عنه: (الأحلامُ هي الطريقُ الملكي إلى اللاشعور). واهتم فرويد بالجنس وأعطاه الأولوية باعتباره القوة المحركة للسلوك.
مدرسة التحليل النفسي
وقد أسس فُرويد مدرسةً نفسيةً ضخمةً تُسمى (مدرسة التحليل النفسي). وهي مدرسةٌ تفسر السلوكَ الإِنساني تفسيراً جنسياً، وتجعل الجنس هو الدافع وراء كل شيء. كما أنها تعتبر القيم والعقائد حواجز وعوائق تقف أمام الإِشباع الجنسي مما يُورث الإِنسان عقداً وأمراضاً نفسية.
وأصبح لهذه المدرسة عشراتُ الفروعِ في العالم، ومئات أو آلاف المؤلفات والمؤتمرات وقد بدأت حركةُ التحليلِ النفسي في فيينا. وانتقلت إلى سويسرا، ومن ثم عمت أوروبا. وصارت لها مدارس في أمريكا. ووقع فرويد في أخطاء علمية خطيرة وفادحة كان لها تأثير كبير على الدراسات النفسية والاجتماعية والإنسانية. بل وله دور كبير في انتشار العري والجنس والإباحية والضياع والفلسفات الهدامة في أوروبا وأمريكا خصوصاً, وفي العالم عُموماً.
ويُتهم – بل هو الحق – فرويد بأنه ظهر في مظهر الإلحاد، ولكن عقله الباطن كان مُتشبعاً بالتراث اليهودي كالتوراة والتلمود. واستطاع أن يُسرب هذه المعاني والأفكار التوراتية والتلمودية في نظرياته وكتبه المتعددة, وفرويد له كتب متعددة، منها:”تفسير الأحلام” – وقد تقدم الكلام عليه-، و” مستقبل وهم”، و” تاريخ حركة التحليل النفسي” ,و” موسى والتوحيد”, و”ما فوق مبدأ اللذة”, و”ليوناردو دافنشي”, و” الحب والحرب والموت والحضارة “، و”ثلاث مقالات في الجنس”، و”أفكار لأزمنة الحرب والسلام”, و”الأحلام والفن “, و”النكتة وعلاقتها باللاشعور”, و”الباثولوجيا النفسية للحياة اليومية” وغيرها, فكتُبُه كثيرةٌ جداً, وكلها تصب في تقرير نظرياته وأفكاره. مات فرويد بلندن سنة (1939م)، وما زالت مدرستُه وأفكارُه قائمةً وإن ظهرت معارضاتٌ ونظرياتٌ ضدها على مستوى العالم. راجع ترجمته في “مَوْسُوعة أعلام علم النفس” للدكتور عبد المنعم الحِفني (242-258). و”الموسوعة المُيسرة في الأديان والعقائد والأحزاب المعاصرة” (2/832-841)رقم(106)(الفُرويدية).
وعفواً إن كان وقع شيءٌ من الإطالة والاستطراد والتكرار. فعذري أني أردتُ استيفاءَ الكلامِ على الفائدة. وتوكيد بعض المعاني التي ضاعت عندَ المُشتغلين والمُهتمين بهذا الفن. هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين والمُرْسلين.